مقدمة:
ما يميز المسرح هو كونه يقبل كل القراءات، ويتكيف مع كل الحقول المعرفية، والدليل أن كل المناهج النقدية التي وصلتنا عن طريق المثاقفة تجد ظالتها في الخطاب المسرحي، باعتباره مادة غزيرة لا تبخل على أي ناقد أو منهج نقدي في تلبية إشباعه المعرفي. في هذا الصدد نقترح واحدة من أهم النظريات التواصلية التي اشتغلت على الخطاب عامة والخطاب المسرحي بخاصة وجعلت السياق من أولى اهتماماتها، يتعلق الأمر باللسانيات الوظيفية في شقها التداولي، فالتداوليات بإمكانها أن تقنن الخطاب المسرحي، وتجعل العلامات الصادرة عن الخشبة قابلة لتأويلات محددة ومضبوطة، ومن ثم يصبح موضوع الخطاب المسرحي واضحا، وقراءة معانيه ستكون موحدة بين جميع المتلقين، وهذا هو الأهم. العرض المسرحي، ليس سوى تعبيرا عن النص الدرامي وترجمة له، وتبقى وظيفة المخرج هي ترجمة النص بلغة أخرى. ويفترض في المخرج أن يراعي أو يخلق التكافؤ بين المعطيات السيميائية الموجودة في النص وبين ما يمكن أن يخلق على الخشبة، وهي معطيات يمكن استخلاصها من خلال وظائف اللغة ومستوياتها، وقاعدة الحوار، إضافة إلى إيقاع اللغة اللفظي الذي يبدو من خلال العرض. يقول نديم معلا: "إن الكلمة في المسرح فعل. وصلب الدراما وجوهرها فعل. وقد يقوى الفعل –الذي يتجسد في الإيماءة والحركة- على إزاحة الكلمة أو على منافستها في القدرة على إنتاج المعنى. ما الذي يحدث إذا ترافقت الكلمة وتزامنت مع الإيماءة، في موقف واحد، بغرض إنتاج دلالة واحدة؟ المعنى في هذا الموقف سيكون توكيدا مضاعفا"(1). الكلمة التي ينطقها الممثل على خشبة المسرح فعل، لأنها تفعل فعلها الراهن، في الشخصيات التي تستقبلها، تسمعها، إذ يكون موجها إليها.التكوين المزدوج للمسرح، نص/عرض يجعل منه كما قالت "يوبيرسفلد" فن المفارقات بامتياز، فن ينسج خصوصياته، ويمتح العناصر المكونة لبنيته من مفارقات هي مرجعياته المتباينة، فهو –من جهة- نص أدبي عنصر الخيال جوهري في دراميته، ومن جهة أخرى –هو عرض أو فرجة- سمته الأساس هي آنيته لأنه مرتبط بـ (الآن هنا) حيث يوجد الممثل والجمهور. وبهذا الاعتبار فإن "النص الدرامي يظل مغلقا دائما وباقيا في المكان ما دام وجوده متحققا في نص مكتوب يمكن قراءته، بعكس العرض المفتوح والموصوف بأنه آني وعابر فإنه لا يتكرر مرتين لأنه أثناء السرد ينتج نظاما من العلاقات المؤتلفة مع العلاقات اللسانية المشكلة للحوار تعطي لخطابات الشخوص شروطها التلفظية التخيلية فيصير من الصعب بعد ذلك أن نتصور عرضا بدون نص حتى عند غياب الكلام المنطوق"(2). 1- تعريف التداولية: تعتبر التداولية(3) La pragmatique من المستويات الأساسية المشكلة للعلوم اللسانية، إلى جانب التركيب، الصرف، الصواتة، الدلالة، والمعجم. وما يميز التداولية هو أنها ليست علما لغويا محضا يقتصر اشتغاله على وصف وتفسير الظواهر اللغوية، بل علم تواصلي جديد يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال. في سنة 1938 ميز الفيلسوف الأمريكي شارلز موريس Charles Morris في مقال كتبه في موسوعة علمية، بين مختلف الاختصاصات التي تعالج اللغة وهي: علم التركيب (وبالإجمال النحو الذي يقتصر على دراسة العلاقات بين العلامات)، وعلم الدلالة (الذي يدور على الدلالة التي تتحدد بعلاقة تعيين المعنى الحقيقي القائمة بين العلامات وما تدل عليه)، وأخيرا التداولية التي تعنى، في رأي موريس، بالعلاقات بين العلامات ومستخدميها. والذي استقر في ذهنه أن التداولية تقتصر على دراسة ضمائر التكلم والخطاب وظرفي المكان والزمان (الآن، هنا) والتعابير التي تستقي دلالتها من معطيات تكون جزئيا خارج اللغة نفسها، أي من المقام الذي يجري فيه التواصل(4).
وفي تعريفه للتداولية يقول موريس: التداولية جزء من السيميائية التي تعالج العلاقة بين العلامات ومستعملي هذه العلامات. ومن ثمة كل حديث عن التداولية، هو كلام يصب في جوهر علم جديد في التواصل، ويدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال، ويدمج بين مجالات معرفية متعددة في دراسة التواصل اللغوي وتفسيره. ويعرفها البعض بأنها: "دراسة استعمال اللغة في الخطاب، شاهدة في ذلك على مقدرتها الخطابية"(5)، أو هي إن شئنا: "دراسة كيف يكون للمقولات معان في المقامات التخاطبية"(6). من هذه التعاريف يتبين الفرق بين التداولية وعلم الدلالة، من خلال آثار الاستعمال ومختلف السياقات في استخراج المعنى في الدراسة التداولية. وما يميز التداولية هو كونها تتقاطع مع مجالات معرفية متعددة كاللسانيات، علم النفس المعرفي ممثلا في "نظرية الملاءمة" Théorie de pertinence، علوم الاتصال والتواصل، والفلسفة التحليلية، ممثلة في فلسفة اللغة العادية. وبالتالي، فخصائص التواصل التداولية تتميز عن التفاعل التواصلي بالتعدد السياقي الذي يميز الأقوال، مما يجعل القائلين لا يقفون عند القصد الإخباري للأقوال بل يتعدون ذلك إلى معاني سياقية تداولية تحكم العلاقة بين أطراف الخطاب"(7).2- رواد الدرس التداولي: عدد كبير من الباحثين يربطون ظهور الدرس التداولي بمنتصف القرن العشرين على يد مجموعة من الفلاسفة الغربيين، بينما يرى آخرون أن التداولية متجذرة في تراثنا العربي ضمن نظرية "الخبر والإنشاء" التي اشتغل بالبحث فيها عدد كبير من العلماء، ومن ثم صار متعينا على من يدرسها أن يتتبع أصولها وتطبيقاتها في مؤلفات عدد من العلماء الذين أسسوا هذه الظاهرة في تراثنا أو عمقوا البحث فيها. فمن النحاة والبلاغيين الذن تعرضوا لها سيبويه (حوالي 180 هـ)، عبد القاهر الجرجاني (سنة 471 هـ)، أبو يعقوب السكاكي (626 هـ)، ورضى الدين الأستربادي (686 هـ)، وجلال الدين الخطيب القزويني (739 هـ) وغيرهم... ومن الفقهاء والأصوليين: ابن رشد القرطبي (595 هـ)، فخر الدين الرازي (606 هـ)، سيف الدين الآمدي (631 هـ)... وتجاوز البحث نطاق النحاة والبلاغيين والأصوليين إلى الفلاسفة والمناطقة، ومنهم: أبي نصر الله الفرابي (338 هـ)، ونجم الدين القزويني (493 هـ)، وأبي علي بن سينا (428 هـ) وغيرهم...(8).
أما التداولية بالمفهوم الحديث، فهي وليدة للثقافة الأنكلوساكسونية Anglosaxonne، وقد تطورت في الولايات المتحدة وإنجلترا بسبب الدور الذي لعبته الاتجاهات التحليلية في الفلسفة، ومن جهة أخرى لسبب ما خلفته النظرية التوليدية في نموذجها الأول من مشاكل (إخفاق) نتيجة تمسكها باستقلالية التركيب L’autonomie de la syntaxe، مما أدى للتفكير في البعدين الدلالي Semantique، ثم التداولي Pragmatique(9). وحتى عندما أصبحت التداولية باعتبارها جزءا مهما من اللسانيات، كانت المعلومات عنها، على الأقل في العالم الناطق بالإنجليزية، ما تزال تقدم كعنصر أساس في أعمال الفلاسفة أبرزهم الثالوث الآتي: 1- جون أوستين J.Austine ونظرية "أفعال الكلام": في سنة 1962، صدر كتاب هام لأوستين تحت عنوان "كيف تصنع الأشياء بالكلمات" Haw to do things with words وتقوم نظرية هذا الأخير على أن اللغة "أداء أعمال مختلفة في آن واحد، وما القول إلا واحد منها، فعندما يتحدث المتكلم فإنه في الواقع يخبر عن شيء، أو يصرح تصريحا ما، أو يأمر، أو ينهي، أو يلتمس، أو يشكر، أو يعد، أو يعتذر، أو يحذر، أو يدعو، أو يسمي، أو يستغفر، أو يسبح، أو يمدح، أو يذم، أو يحمد الله، أو يعقد صفقة تجارية..."(10) يعني هذا على أن خطاب اللغة يعبر عن أفعال حقيقية، فالطلب يعبر عن رغبة في شيء ما، وحكم القاضي يعني الفعل، وعقد البيع اللفظي يعني تمليك البيت وتملك المال...وفقا لهذه النظرية يقاس النجاح، بمدى اكتشاف المتلقي المعبر عنه خلال فهم قصد المتكلم. وقد قسم أوستين أفعال الكلام إلى ثلاثة أقسام: § الفعل اللفظي Locutionary act: ويقصد به عملية النطق بالجملة المفيدة التي تتفق مع قواعد اللغة.§ الفعل غير اللفظي Illocutionary act: ويراد به الحدث الذي يقصده المتكلم بالجملة، كالأمر أو النصيحة.§ الفعل المترتب عن النطق perlocutionary: وهو التأثير الذي يكون للحديث اللغوي في المتلقي، كطاعة الأمر، أو الاقتناع بالنصيحة، أو تصديق المتكلم أو تكذيبه"(11). 2- ج.ر. سـورل ونظرية الحدث الكلامي الكلاسيكية: بعد سبع سنوات من ظهور كتاب أوستين، أصدر سورل، تلميذ هذا الأخير كتابا بعنوان: "الأحداث الكلامية: مدخل إلى فلسفة اللغة" سنة 1969، حيث اعتبر المعنى جزء من الحدث، وأن اللغة هي جزء فرعي من "نظرية الحدث الكلامي" التي دعا إليها. وتتجلى أهمية دعوته لهذه النظرية في الإشارة إلى أهمية "ألأحداث التحقيقية". ومقارنة بشروط "الاستخدام" عند أوستين، صاغ سورل أربعة أنواع من القواعد:§ قواعد المحتوى القضوي: وتحدد نوع المعنى المعبر عنه بالقسم الإخباري في اللفظ.§ قواعد تحضيرية: تحدد الشروط المسبقة قبل أداء الحدث الكلامي؛§ قواعد الأمانة: تحدد الشروط التي يجب أن تتحقق إن كان يجب على الفعل أن ينفذ بأمانة أو دقة؛§ قواعد أساسية: كتحديد كيف يجب أن يحسب الحدث الكلامي عادة؛يرى سورل، أنه بالاستناد إلى الأنماط السابقة، يمكن التمييز بين أحداث كلامية مختلفة، وتحاول نظرية الحدث الكلامي إرساء أنظمة لتصنيف أو تبويب الأفعال وتصنيفها سنة 1979 إلى خمسة أصناف: التوكيدية، الإرشادية، التعهديات، التعبيريات، والإخبارية.3- هـ. بول غرايس ومبدأ التعاون: لقد صاغ غرايس في مقالته الشهيرة "المنطق والمحادثة" سنة 1957، ما سمي بـ "مبدأ التعاون" الذي يقتضي أن المتكلمين متعاونون في تسهيل عملية التخاطب، وهو يرى أن مبادئ المحادثة المتفرعة عن مبدأ التعاون هي التي تفسر كيف نستنتج المفاهيم الخطابية"(12)، وهي المبادئ التي يمكن تلخيصها في ما يلي: مبدأ النوعية، مبدأ الكمية، مبدأ الأسلوب/الكيفية، ومبدأ العلاقة/المناسبة. مبدأ التعاون، مبني أساسا على نزعة إنسانية تعاونية مفترضة، وهو ببساطة وسيلة لشرح كيفية وصول الناس للمعاني. وكل خرق لـ "مبدأ التعاون" يسميه "غرايس" بـ "الاستهزاء بالمبادئ". وقد اقترح "غرايس" مجموعة من القواعد لتضبط عملية التخاطب وتشتمل على القواعد السابقة، وإذا تم خرق إحدى هذه القواعد فينتج لدينا استلزام حواري"(13). 3- المسرح والتداولية: أية علاقة؟ المتتبع للحقل التداولي يدرك مدى التداخل والالتباس الحاصل في هذا الحقل خصوصا في علاقته بالمسرح، "باعتباره نصا أدبيا وفرجة في آن واحد، ويطرح إشكالات لا تقل عن سابقاتها خصوصا وأن الاهتمام بالبعد التداولي للمسرح حديث جدا يمكن ربطه زمنيا بعقد الثمانيات [...] ويمكن حصر الإشكاليات التي أفرزها الاهتمام الحديث بالتداولية المسرحية في ثلاثة وهي:1- الإشكال الإبستيمولوجي؛2- الإشكال النظري؛3الإشكال الإجرائي"(14). فالإشكال الأول طرحه "دومينيك مانغونو Dominique Maingueneau من خلال طبيعة العلاقة بين المسرح والتداولية، والإشكال الثاني يتمثل في التساؤل حول أي شكل من أشكال التداولية يمكن توظيفه في إطار نظرية المسرح؟ وهو إشكال طرحه "باتريس بافيس" في مقالات عدة، هذا الأخير الذي يرى أن المقاربة التداولية ستقتصر على النص الدرامي ولن تتجاوزه إلى العرض إلا في حالات قليلة، من خلال المقاربة السيميائية التي اهتم فيها أصحابها بدراسة العلامات المسرحية. الغاية من أجرأة التداوليات في هذا الباب هو توظيفها كأداة فعالة لدراسة الخطاب المسرحي. لكن، هل سيتم الاشتغال على النص أم على العرض أم عليهما معا؟ مقاربة النص المسرحي تداوليا تثير إشكالين أساسيين: الأول مرتبط بالشكل التداولي الذي يمكن توظيفه، والثاني منسوب لعلاقة التداوليات كمفهوم بالمسرح كثنائية... وبما أن التداوليات ينصب اهتمامها على البعد الاستعمالي أو الإنجازي للكلام ويأخذ بعين الاعتبار السياق وحالة المتكلم بما فيها النفسية، فهل يمكن استعمالها كوسيلة لدراسة الخطاب المسرحي؟ وإذا أمكن ذلك، هل سيتم الاشتغال على التلفظ المسرحي (اللغة) أم على العرض باعتباره فضاء مملوء بالديكورات والرموز، دون إغفال جسد الممثل وما يمكن أن نستنتج منه من معاني ودلالات إضافية؟ خصوصا وأن خشبة المسرح تحول الأشياء والأجساد الواقعة عليها، وتضفي عليها قوة دلالية كبيرة تفقدها هذه الأشياء والأجساد"(15)، كما أن الصورة والحركة حين تلازمان اللغة تعملان على تحويلها من كونها علامة ثابتة الدلالة إلى كونها طاقة إيحائية ومركزا من مراكز التشفير يحفل بها خطاب العرض.توحي المقاربة التداولية للخطاب المسرحي إذن بالتعقيد، تعقيد تعكسه طبيعة الروابط بين النموذج المسرحي والمقاربة التداولية التي توحي بصعوبة الحسم في اختيار المظاهر الخطابية المدروسة. وحول إشكالية نص/عرض، تتجه التداولية اللسانية نحو أخذ النص الدرامي وحده بعين الاعتبار مقلصة العرض إلى نص. 4- البعد التداولي لمسرحية تقرقيب الناب: في مقاربتنا لهذا النص سنركز على تطبيق معطيات "بول غرايس" دون غيره، لعدة أسباب. أولها لاعتماد نظريته على الكلام العادي، وهذا يتناسب مع طبيعة النص. وثاني الأسباب، وهذا هو الأساس، هو أن كل النظريات التداولية التي اهتمت بالتواصل في الخطاب، تقتضي أن يكون النص حواريا، الحوار الذي يوظف فيه المتخاطبان كل طاقاتهما الفكرية والجسدية في كثير من الأحيان. ومن الدراسات المتميزة في إطار التداولية المسرحية ما قامت به "آن يوبيرسفلد" و"أورشيوني" من تطبيقات لنظرية أفعال الكلام على الخطابات المسرحية(16) بمعنى حضور شخصيات متحاورة في ما بينها. وفي حالة غياب الحوار، ومن خلال نظرية "غرايس" سنتواصل مع خطاب النص ونشرح الاختلاف بين ما "يقال" وما "يعني". "ما يقال" هو ما تعنيه الكلمات ظاهريا وغالبا ما يمكن شرحه وفق شروط الحقيقة. أما "ما يعني" فهو التأثير الذي يحاول المتكلم متعمدا إضفاءه على المستمع أو القارئ المخاطب من خلال إدراك الأخير لهذا القصد(17). غالبا ما تكون هناك فجوة كبيرة بين هذين النوعين من الرسائل، يتألف أولهما من "المعاني الواضحة" الظاهرية فقط، بينما يحتوي الآخر معنى ضمنيا أيضا. وكمحالة تجريبية لهذه العملية، سنقوم بتطبيق مبدأ التعاون الغرايسي على بعض المقاطع من النص المسرحي تقرقيب الناب للباجث المغربي يوسف أمين العلمي. لنلاحظ المقطع التالي:"حرية محتجبة، من السرة للركبة وغير شوية وكان. هي كتشطح على الجرة وتدردك، وعباد الله في البار كتبركك. اللي كيتبسم واللي كيتبسل واللي كيتنشوى "ياليل"، واللي كيضحك كالفيل"(18). هذا الخطاب ينطلق من فرضية مسبقة يسميها غرايس بـ "دلالة التضمن"، يتجلى ذلك بالإستناد إلى بعض العبارات اللهجية التي لا يمكن فهم دلالتها إلا من خلال المعرفة العامة والمعرفة السياقية المشتركة بين أطراف التواصل، فالعبارات: كتشطح، الجرة، تدردك، كتبركك، كيتبسل، كيتنشوى... كلها عبارات، لا يمكن أن تتواصل من خلالها أطراف التواصل إلا إذا اشتركت في المرجعية الثقافية، واللغوية... بمعنى معارف مسبقة يشتركان فيها. وفي المقطع التالي:"مراد ولد باب الخوخة، طبيب فسبيطار الغساني. كيقيل يفتح فالمخوخة بالدوزان: المنشار والمقص واللقاط والموس والمويس. فوق الطابلة دالفتيح"(19). حتى وإن لم نعزل هذا المقطع عن السياق الذي ورد فيه، فهل يمكن لمتلقي هذا الخطاب أن يفسر أو يفهم باب الخوخة- سبيطار الغساني- كيقيل- المخوخة- المويس. ففي هذا المقطع وقع خرق لأهم المباديء التى دعا إليها "غرايس" وهو "مبدأ الكيفية" حيث الدعوة إلى تجنب اللبس والإبهام. فماذا عن متلقي لا يعرف أن باب الخوخة مكان معروف قريب من السوق القديم في مدينة فاس، وسبيطار الغساني مستشفى غير بعيد من كلية الآداب ظهر المهراز في مدينة فاس أيضا؟ وفي مقطع آخر:"الحاج الهادي كيبرق ما يقشع، لا هدا لا هادي، صمك، عمش، ما يفرقش ما بين الكلب والمش. عندو تناين وثمانين عام، الله يكبرنا فطاعة الله. عاقل على لاندوشين، ورجوع سيدنا محمد الخامس. مخلي مرتو كتدمر وكتنكر، وهو النهار وما طال مكمش تحت بطانية ديال النمر، عينيه فعيون التلفزيون. هداك الصباح، حضاش سبتمر فيام الله، مدوزين فيلم مريكان ماشي شيحاجة، فويلم وكان، ما عندو لا راس لا رجلين، فيه جوج طيارات تنين، كتطلع وتسطح، جوج مولاتي العمارات كالطول كالعرض، وكتجيبها للأرض. كتعطيها وتواطيها، الداف دردلاف، والموتة بالآلآف"(20). بخصوص هذا المقطع، يمكن أن نتسائل أولا عن تحقق المباديء التي دعا إليها "غرايس"، فأول مبدئ مشكل لـ"مبدأ التعاون" هي "مبدأ النوعية" الذي يقول: إجعل إسهامك صحيحا ولا تقل ما يعوزك فيه البرهان الكافي. فالمقطع يحكي لنا عن وقائع عاشها الحاج الهادي يوم الحمعة 11 شتنبر 2001، مسألة الصدق والكذب غير مهمة، ما يهم هو: باعتبارنا متلقين لهذا الخطاب، هل فهمنا الرسالة وتواصلنا مع معاني النص أم لا؟ المبدأ الثاني هو مبدأ الكمية الذي يقول: لا تجعل إسهامك أكثر إخبارا مما هو مطلوب. ومن ثم، فهل في هذا المقطع غير الإخبار؟"عز العرب دكتور فالحساب، عندو ربعين عام بالعدمة ومازال بلا خدمة. كيقيل فالقهاوي كيحسب شلا حساب. شحال من كليان جاي بوحدو فاضي، وشحال من واحد مصيد مقضي زعيعرة، شهيهلة، سميمرة. النهار كلو وهو عاصر كيحسب شحال من عصير وشحال من قهوة دازت من قدامو: هادي مهرسة بالحليب، هادي نوار صيري، هادي كريم تيري. ويلي، واش عز العرب مالقى شغل؟(21). يتوحد الخطاب حول شخصية "عز العرب" وذكر بعض التفاصيل المرتبطة بحياته الشخصية، غير أن هذه المعلومات المقدمة حول "عز العرب" يشوبها الإبهام واللبس والغموض، وهذا منافي تماما لمبدأ الأسلوب/الكيفية الذي دعا إليه "غرايس". ماذا يعني المرسل بـ "كليان جاي بوحدو فاضي"، و"شحال من عصير وشحال من قهوة دازت من قدامو"؟ فهذه كلها عبارات تحتاج إلى التوضيح، ولا تحقق التواصل الكافي، بمعنى أنها تقبل تأويلات فضفاضة رغم محدوديتها، وهذا التعدد هو الذي يضعنا أمام خرق لمبدأ التعاون ومن ثم يضعنا أمام نتيجة وهي الاستلزام الحواري. تأسيسا على ما سبق، جاز القول بأن الدرس التداولي للخطاب المسرحي سيفتح آفاق جديدة لقراءة المسرح قراءة مغايرة للقراءات الأخرى التي ركزت على جوانب أخرى شكلية في الغالب. وبالتالي فالقراءة التداولية تقنن عملية التاصل سواء بين الشخصيات على الخشبة، أو بين الخشبة والصالة.
لائحة المصادر والمراجع:
* ألقيت هذه المداخلة يوم 26 أبريل 2011 بقاعة المحاضرات بجامعة ابن طفيل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة في الحلقة الدراسية Séminaire في موضوع: قراءة كتب بحضور مؤلفيها، والتي كانت من تنظيم مختبر المسرح وفنون العرض.
(1) نديم معلا، لغة العرض المسرحي، دار المدى للثقافة والنشر، سورية، الطبعة الأولى، سنة 2004. ص 18.
(2) عبد الرحمان بن زيدان، التجريب في النقد والدراما، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، سنة 2001، ص 88.
(3) هي ترجمة للمصطلحين الإنجليزي pragmatics والفرنسي La pragmatique اللذان يحيلان على نفس المعنى وهو المذهب التواصلي الجديد، بينما يقصد بمصطلح Le pragmatisme الفرنسي الفلسفة النفعية الذرائعية باعتبارها مذهب يتخذ القيمة العملية التطبيقية قياسا للحقيقة.
(4) آن روبول وجاك موشلار، التداولية اليوم: علم جديد في التواصل، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، سنة 2003، ص 29.
(5) فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ص 08
(6) محمد محمد يونس علي، مقدمة في علمي الدلالة والتخاطب، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، سنة 2004، ص13
(7) محمد نظيف، الحوار وخصائص التفاعل التواصلي: دراسة تطبيقية في اللسانيات التداولية،إفريقيا الشرق، ط 1، سنة 2010، ص 08.
(8) مسعود صحراوي، التداولية عند العلماء العرب، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، سنة 2005، ص 06- 07.
(9) مقبول إدريس، البعد التداولي عند سيبويه، سلسلة عالم الفكر، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 33، يوليوز- شتنبر، ص 245
(10) محمد محمد يونس علي، مقدمة في علمي الدلالة والتخاطب، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، سنة 2004، ص 34
(11) نفس المرجع السابق، ص 35
(12) نفس المرجع السابق، ص 99
(13) أحمد المتوكل، دراسات في نحو اللغة العربية الوظيفي، دار الثقافة، البيضاء، المغرب، سنة 1986، ص 110
(14) حسن يوسفي، المسرح ومفارقاته، مطبعة سندي، سنة 1996، ص113
(15) سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، مدخل إلى السيميوطيقا: العلامات في المسرح، دار إلياي العصرية، القاهرة، سنة 1986، ص 241
(16) آن يوبيرسفلد، قراءة المسرح، تر: مركز اللغات والترجمة- أكاديمية الفنون، مطابع المجلس الأعلى للآثار، القاهرة، غياب السنة..
(17) أنظر مقالة غرايس "المنطق والمحادثة" سنة 1957.
(18) يوسف أمين العلمي، تقرقيب الناب، دار إفزاران للطباعة والنشر، طنجة، سنة 2006، ص 06.
(19) نفس المرجع السابق، ص 06.
(20) نفس المرجع السابق، ص 22.
(21) نفس المرجع السابق، ص 46.